عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٣

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٥

الدّعاء ، ومعناه إيجاد ذلك من الله بهم. وقيل : هذا يستعمل في تعظيم الشيء نحو : قاتله الله! وقتله الله ما أشجعه! ومنه : «ويلمّه! مسعر حرب» (١).

وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٢) قيل : معناه لعنهم ، وقيل : قتلهم ، نحو : عاقبت اللصّ. والأظهر أنّ المفاعلة فيه منبهة على أنّ الفعل بولغ فيه بحيث إنه صدر من اثنين. وقد حقّقنا عند قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ).

وقتلت الخمر بالماء : أي مزجتها لكسر سورتها ، تشبيها بقتل الحيّ ، وكذلك قال بعضهم ، والصحيح أن ذلك هو المفاعلة ، والمعنى صار بحيث يتصدّى لمحاربة الله تعالى ؛ فإنّ من قاتل الله تعالى فمقتول ، ومن غالبه فمغلوب. وذلك أن المفاعلة المحاربة وتحرّي القتل ، ولذلك قال تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ)(٣) وقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ)(٤) قرىء : «ولا تقتلوهم ... فإن قتلوكم» (٥) بالفعل والمفاعلة ، ومعناهما واضح ، إلا أن معنى قوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ ... فَاقْتُلُوهُمْ) أي فإن قتلوا بعضكم ، أو فإن عزموا وشارفوا قتلكم وتحقّقتم منهم ذلك أو غلب على ظنكم ، وإلا فبعد أن تقتلوا كلّهم حقيقة يستحيل أن تقتلوا بعد ذلك غيرهم ، وقال ابن عرفة : وهذا من فصيح الكلام ؛ يقال : قتلنا بنو فلان : أي قتلوا منا (٦) ، وأنشد الأخطل (٧) : [من الوافر]

لقد بلغوا الشّفاء فخيرونا

بقتلى من يقتّلنا رياح

قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(٨) قيل : عنى به وأد البنات ، وكانت

__________________

(١) من حديث أبي بصير كما في النهاية : ٢ / ٣٦٧ ، واللسان ـ مادة سعر. والمثل مذكور في د ، وبياض في ح وس.

(٢) ٣٠ / التوبة : ٩.

(٣) ١٢٣ / التوبة : ٩.

(٤) ١٩١ / البقرة : ٢. وما بعده ساقط من ح.

(٥) كذا قراءة أصحاب عبد الله ، والمعنى ها هنا : فإن بدؤوكم بالقتل فاقتلوهم (معاني القرآن للفراء : ١ / ١١٦).

(٦) يريد : قتلوا منا واحدا.

(٧) غير مذكور في الديوان.

(٨) ٣١ / الإسراء : ١٧.

٣٢١

محاويجهم (١) نفعله. وقيل : عنى بذلك العزل في الوطء ، ولذلك سمّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الوأد الخفيّ» (٢). ولذلك اختلف في جوازه في الحرّة إلا بإذنها. وقيل : معناه النّهي عن منع تعليم الأولاد العلم ، واشتغالهم بالحرف الملهية عن العلم خشية الفقر ؛ فإنّ الجاهل ميت وإن كان حيّا ، ويؤيده قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)(٣) الآية ، وإليه نظر من قال : [من البسيط]

وعاش قوم وهم في الناس أموات

وقد وصفهم بذلك حيث قال تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)(٤).

قوله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)(٥) ذكر القتل دون الذّبح والزكاة وغيرهما ، وهو أعمّها ، وفيه تنبيه على أن تفويت روحه على جميع الوجوه محظور.

وأقتلته : عرّضته للقتل ، نحو أبعثته. واقتتله العشق والجنّ ، ولا يقال في غيرهما.

والاقتتال كالمقاتلة ، كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)(٦).

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ)(٧) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، وإنّما أبرزه في هذا التركيب لما يروع السامع من فظاعة الكلام ، ورونق هذا الأسلوب فأتى بالظرف مسؤولا عنه وأبدل منه حدثه الواقع فيه ، وفيه مما ذكرت لك ما لم يكن في غيره ، فجلّ من أنزله على أفصح أسلوب وأبلغ نظم.

ويعبّر بالقتال عن المدافعة ، ومنه حديث المارّ بين يدي المصلّي «فليقاتله» (٨) أي

__________________

(١) بياض في ح وس ، مذكورة في د.

(٢) النهاية : ٥ / ١٤٣.

(٣) ١٢٢ / الأنعام : ٦.

(٤) ٢١ / النحل : ١٦.

(٥) ٩٥ / المائدة : ٥.

(٦) ٩ / الحجرات : ٤٩.

(٧) ٢١٧ / البقرة : ٢.

(٨) النهاية : ٤ / ١٣ ، وتمامه : «قاتله فإنه شيطان».

٣٢٢

فليدافعه ؛ قال الهرويّ : ليس كلّ قتال بمعنى القتل ، وربما يكون لعبا ، وربما يكون دفعا : وإذا دفعت سورة الشراب بالماء قلت : قتلت الشراب أقتله ، بمعنى أنّ ذلك مستعار للمدافعة كاستعارته لكسر حدّة الخمر ، ومنه قول الشاعر (١) : [من الطويل]

فقلت : اقتلوها عنكم بمزاجها

وأطيب بها مقتولة [حين تقتل]

فصل القاف والثاء

ق ث أ :

قوله تعالى : (مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها)(٢) القثّاء : الخيار ، وفي عرف بعضهم يختصّ بشيء غير الخيار لكنه من نوعه ، وفيه لغتان : ضمّ القاف وكسرها (٣) ، وهو أفصح ، الواحدة قثّاءة ، نحو قمح وقمحة ، فهو اسم جنس ، ويجمع على قثائيّ نحو علياء وعلائي ، وهمزته أصليّة خلافا لمن وهم فجعلها بدلا من واو ، ويدلّ على ما قلته قولهم : أقثأت الأرض : كثر قثّاؤها ، وأقثأت القوم : أطعمتهم القثاء.

وأفثأت القدر (٤) : سلبت غليانها بصبّ ماء فيها ، وأنشد (٥) : [من الطويل]

تفور علينا قدرهم فنديمها

ونفثؤها عنّا إذا حميها غلى

__________________

(١) البيت للأخطل كما في الديوان : ١ / ١٩ ، والتتمة منه. وفي الأصل : وحبّ بها.

(٢) ٦١ / البقرة : ٢.

(٣) وكذا يقول ابن منظور في مادة قثأ.

(٤) أفثأت : بالفاء ، ولا معنى لها هنا بالقاف. وكذا الشاهد بالفاء. ولعل المؤلف اختلط الأمر عليه بين القاف والفاء. فليتنبه وينقلها إلى الفاء.

(٥) الشاهد في اللسان ـ مادة دوم من غير عزو ، وفي الجمهرة : ٣ / ٢٨٦ ، وفيه : تدور علينا.

٣٢٣

فصل القاف والحاء

ق ح م (١) :

قوله تعالى : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ)(٢) أي داخل. يقال : اقتحمت الشيء : دخلت فيه ، وأصله توسّط شدّة مخيفة.

وقحّم الفرس إليه : أي دخل به وتوغّل ما يخاف عليه منه. وقحم فلان بنفسه في كذا : دخل من غير رويّة. والمقاحيم : الذين يقتحمون في الأمر المهيب.

قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)(٣) أي لم يتجاوزها ولم يقطعها ، وهو استعارة عن تحمل المشقّة ، ولذلك قال ابن عرفة : ولم يتحمّل الأمر العظيم في طاعة الله. ثم فسّر تلك العقبة بأنها (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ)(٤). وفي الحديث : «من لقي الله لا يشرك به شيئا غفر له المقحمات» (٥) أي العظائم التي تدخله النار.

والتقحّم : التقدم والوقوع في أهويّة. والقحم : الأمور الشاقّة. وفي صفته عليه‌السلام : «لم تقتحمه عين من قصر» (٦) أي لم تزدره. وكلّ شيء ازدريته فقد تقّحمته ؛ وذلك أنّ العين تتجاوز الشيء الحقير ولا تنظر إليه. فالمعنى لا تتجاوزه العين احتقارا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل تديم النظر إليه إعجابا به وتعظميا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا شأن الإنسان إذا رأى ما لا يعجبه أعرض عنه.

__________________

(١) المادة غير مذكورة في د.

(٢) ٥٩ / ص : ٣٨.

(٣) ١١ / البلد : ٩٠.

(٤) ١٣ و ١٤ / البلد : ٩٠.

(٥) النهاية : ٤ / ١٩.

(٦) النهاية : ٤ / ١٩.

٣٢٤

فصل القاف والدال

ق د د :

(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ)(١) القدّ : قطع الشيء طولا. والقدّ : المقدود : ومنه قدّ الإنسان لقامته. والقدّة : القطعة من اللحم. وقددت اللحم : فعلت به ذلك ، فهو قديد ، وغلب في اليابس منه.

واقتدّ الأمر : دبّره ، كقوله : فضله وصرمه.

و «قد» تصحب الأفعال وتقرّب الماضي من الحال ، وتكون «قد» حرف توقّع وتقليل وذلك بحسب القرائن ، وإذا دخل على المضارع أفاد التقليل غالبا إلا في أفعال الباري تعالى فتكون للتحقيق نحو : «قد يعلم الله» (٢) قال الراغب (٣) : وقد : حرف يختصّ بالفعل ، والنحويون يقولون : هو للتوقّع ، وحقيقته أنه إذا دخل على فعل ماض فإنما يدخل على كلّ فعل متحدّد نحو قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ)(٤). ولما قلت : لا يصحّ أن يستعمل في أوصاف الله تعالى الذاتية فيقال : قد كان الله عليما حكيما. وإذا دخل «قد» على الفعل المستقبل فذلك لفعل يكون في حالة دون حالة نحو : («قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ)(٥) فيها علم الله ، انتهى.

و «قد» : يكون اسما (٦) بمعنى «حسب» نحو : قدك درهم ، وقطك درهم ، أي حسبك

__________________

(١) ٢٧ / يوسف : ١٢.

(٢) ١٨ / الأحزاب : ٣٣.

(٣) المفردات : ٣٩٤.

(٤) ١٨١ / آل عمران : ٣.

(٥) ٦٣ / النور : ٢٤.

(٦) يريد : اسما للفعل.

٣٢٥

وكافيك درهم ، فالكاف في محلّ جرّ بالإضافة. وتدخل عليها النون للوقاية جوازا ، ومنه قول الشاعر (١) : [من الرجز]

قدني من نصر الخبيبين قدي

فأثبتها في الأول وحذفها في الثاني ، إلا أنّ الأكثر إثباتها. وزعم بعضهم أنهما (٢) اسما فعل ينتصب ما بعدهما وأنّ الكاف وما معها في محلّ نصب. وأجاز الفراء : قد زيدا ، بنصب زيد. قال الراغب : وجعل ذلك مقيسا على ما سمع من قولهم : قدني وقدك ، قال : والصحيح أنّ ذلك لا يستعمل مع الظاهر وإنّما جاء عنهم في المضمر.

قوله تعالى : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً)(٣) أي فرقا متفرّقين مختلفي الأهواء ، وهو جمع قدّة نحو : قطعة وقطع.

والقدّ : السّوط. وفي الحديث : «موضع قدّة في الجنة خير من الدنيا وما فيها» (٤) أي موضع قدر السّوط.

والقدّ ـ بالفتح ـ جلد السّخلة ، وهو أيضا سقاء صغير يتّخذ من جلدها. والقدّ أيضا المقدود. وقال طرفة بن العبد (٥) : [من الطويل]

وخدّ كقرطاس الشّآمي ومشفر

كسبت اليماني قدّه لم يجرّد

يروى بكسر القاف مع الجيم ؛ فالقدّ : النّعل ، ومعناه أنه مجرور من شعره فهو ألين له ، وبفتحها مع الحاء ، والمعنى : مثاله لم يعوّج. فالتحريد : الاعوجاج ، وهو قطع بعضه دقيقا وبعضه عريضا.

__________________

(١) الشطر لحميد الأرقط ، وهو من شواهد النحاة (مغني اللبيب : ١٧٠ ، واللسان ـ مادة قدد). وعجزه :

ليس الإمام بالشّحيح الملحد

(٢) يعني : قد وقط.

(٣) ١١ / الجن : ٧٢.

(٤) النهاية : ٣ / ٢١.

(٥) من معلقته ، الديوان : ٣٤. السبت : جلود البقر المدبوغة بالقرظ.

٣٢٦

ق د ر :

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(١) أي ما عظّموه حقّ تعظيمه ولا عرفوه حقّ معرفته. قال الراغب (٢) : تنبيها أنه كيف يمكنهم أن يدركوا كنهه وهذا وصفه. وهو قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٣)؟

قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)(٤) أي أن لن نضيق ، والتقدير : التضييق ، ومنه قوله تعالى : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)(٥). وعن ابن عباس أن معاوية أرسل خلفي فقال : ضربتني أمواج القرآن. قال : فيماذا؟ قال : في قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، أيظنّ عبد من عبيد الله أنّ الله لا يقدر عليه ، فضلا عن نبيّ من الأنبياء؟ فقال له : ليس ذلك من القدرة ، إنما هو التقدير بمعنى التّضييق. وتلا قوله تعالى : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)(٦) قال الهرويّ : يعني قدرنا عليه من كونه في بطن الحوت.

يقال : قدر وقدّر بمعنى واحد ، وليس من القدرة في شيء. وقال أبو الهيثم : فظنّ أن لن نقدر عليه العقوبة. قال : ويحتمل أن يكون تفسيره أن لن نضيّق عليه.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٧) وهذا عامّ خصّصه العقل كما حققناه في غير هذا الموضع. ثم القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكّن من فعل شيء ما. وأمّا إذا وصف بها الباري تعالى فنفي العجز عنه. ومحال أن يوصف غير الله تعالى بالقدرة المطلقة معنى ، وإن أطلق عليه لفظا ، بل حقّه أن يقال : هو قادر على كذا. ومتى قيل : هو قادر فعلى سبيل معنى التّقييد ، ولهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه ، إلّا ويصحّ أن يوصف بالعجز من وجه آخر ، والباري تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كلّ وجه ، جلّ وعزّ.

__________________

(١) ٦٧ / الزمر : ٣٩ ، وغيرها.

(٢) المفردات : ٣٩٦.

(٣) ٦٧ / الزمر : ٣٩.

(٤) ٨٧ / الأنبياء : ٢١.

(٥) ١١ / سبأ : ٣٤.

(٦) ١٦ / الفجر : ٨٩.

(٧) ٢٨٤ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

٣٢٧

والقادر يوصف به الإنسان حسبما تقدّم ، والقدير لا يوصف به إلا الله تعالى ، وذلك لما فيه من المبالغة ؛ قال الراغب (١) : والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه ولا ناقصا عنه ، ولذلك لا يصحّ أن يوصف به غير الله تعالى. والمقتدر يقاربه لكن قد يوصف به البشر ، وإذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير ، وإذا استعمل في البشر فمعناه المتكلّف المكتسب للقدرة. يقال : قدرت على كذا أقدره قدرا وقدرا وقدرة ومقدرة وقدرانا. يقال : اقدر بذرعك ، أي اقدر على الأمور بمقدار ما عندك من الاستقلال ، وأنشد لزهير (٢) : [من البسيط]

تعلّمن ، ها لعمر الله ذا قسما

فاقدر بذرعك وانظر : أين تنسلك؟

ويروى : «فاقصد لذرعك» وهو في المعنى الأول.

وأقدرني الله وقدّرني على كذا ، أي قوّاني وجعل لي قدرة. وتقدير الله الأشياء على وجهين : أحدهما بإعطاء القدرة ، والثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت (٣) الحكمة. قال الراغب : وذلك أنّ فعله تعالى ضربان ؛ ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أن أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان (٤) إلى أن يشاء أن يبدّله ويفنيه ، كالسموات وما فيها. وضرب جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالقوّة ، وقدّره على وجه لا يتأتّى غير ما قدّر فيه ، كتقديره في النّواة أن ينبت منها النّخل دون التّفّاح والزيتون ، وتقدير منيّ الآدميّ أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوان. فتقدير الله على وجهين أحدهما بالحكم منه أن يكون كذا أو لا يكون كذا ، إمّا على سبيل الوجوب وإمّا على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٥) والثاني بإعطاء القدرة عليه.

__________________

(١) المفردات : ٣٩٤.

(٢) الديوان : ٨٨. ها : للتنبيه. الذرع : قدر الخطو.

(٣) وفي الأصل : اقتضى.

(٤) وفي الأصل : الكون والفساد ، والتصويب من المفردات : ٣٩٥.

(٥) ٣ / الطلاق : ٦٥.

٣٢٨

قوله : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)(١) أي حكمنا به وصرفناه بينكم فلا يختصّ به أحد من المخلوقين بعضهم دون بعض. وفيه منبهة على أنّ فيه حكمة وهو أنّ الله تعالى هو المقدّر له وليس كما زعم المجوس من قولهم : إنّ الله يخلق وإنّ ابليس يقتل. فانظر إلى هذا الكتاب العزيز كيف تعرّض لكلّ مذهب والردّ عليه قديما وحديثا؟

قوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ)(٢) تنبيه أنّ ما حكم به فهو محمود في حكمه ، ويجوز أن يكون في معنى (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

قوله تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)(٣) إشارة إلى قوله : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ)(٤)(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)(٥) وأنه ليس أحد يمكنه معرفة ذلك على حقيقته ، وأنه جعل ذلك علامة على توقيت العبادة وغيرها. قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ)(٦) إشارة إلى ما أوجد فيه بالقوّة فيظهر حالا فحالا إلى الوجود بالصورة.

قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(٧) فقدر إشارة إلى ما سبق به القضاء والكتابة في اللوح المحفوظ ، وإشارة إلى قوله عليه الصلاة والسّلام «فرغ ربّك من أربع (٨) : الخلق والأجل والرزق». والمقدور إشارة إلى ما يحدث حالا فحالا ، وهو المشار إليه بقوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(٩) ، وعليه قوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(١٠). قال أبو الحسن (١١) : يقال : خذ بقدر كذا أو بقدر كذا.

__________________

(١) ٦٠ / الواقعة : ٥٦.

(٢) ٢٣ / المرسلات : ٧٧.

(٣) ٢٠ / المزمل : ٧٣.

(٤) ٥ / الزمر : ٣٩.

(٥) ٦١ / الحج : ٢٢.

(٦) ١٩ / عبس : ٨٠.

(٧) ٣٨ / الأحزاب : ٣٣.

(٨) الكلمة مذكورة في النسخة د فقط ، والحديث في المفردات : ٣٩٥ ، وتتمته : « ... والمقدور». بينما رواه أحمد في مسنده برواية أخرى.

(٩) ٢٩ / الرحمن : ٥٥.

(١٠) ٢١ / الحجر : ١٥.

(١١) الاسم ساقط من ح وس ، ومذكور في د.

٣٢٩

قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)(١) قرىء بالفتح والإسكان ، والمعنى : ما يليق بحاله مقدّرا عليه ، والمعنى أنّه أعطى كلّ شيء ما فيه مصلحته وهداه لما فيه خلاص له إمّا بالتسخير وإمّا بالتعليم كقوله (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى)(٢).

والتقدير من الإنسان على وجهين ؛ أحدهما التفكّر في الأمر بحسب نظر العقل وبناء الأمر عليه. والثاني أن يكون بحسب التمنّي والشّهوة وذلك مذموم ، كقوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ)(٣).

وتستعار القدرة والمقدور للجاه والسّعة والمال.

والقدر : وقت الشيء المقدّر له والمكان المقدّر له. قوله : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها)(٤) أي بقدر المكان لأن يسعها. وقرىء «بقدرها» (٥) أي تقديرها.

قوله : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ)(٦) أي معيّنين لوقت قدّروه ، ومثله : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)(٧).

وليلة القدر لأنّ الأمور تقدّر فيها وتقضى ، فيسعد فلان ويشقى فلان ويحرم فلان. اللهمّ لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، نسألك بجاه كلامك ونبيّك أن تعطينا أمانك وتمنعنا نقمتك.

قوله : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ)(٨) أي ضيّق عليه ، ومنه اشتقّ الأقدر أي القصير العنق.

__________________

(١) ٢٣٦ / البقرة : ٢.

(٢) ٥٠ / طه : ٢٠.

(٣) ١٨ و ١٩ / المدثر : ٧٤.

(٤) ١٧ / الرعد : ١٣.

(٥) قراءة الحسن والأشهب العقيلي وهارون عن أبي عمرو (مختصر الشواذ : ٦٦).

(٦) ٢٥ / القلم : ٦٨. «على حرد» : على انفراد عن المساكين.

(٧) ١٢ / القمر : ٥٤.

(٨) ٧ / الطلاق : ٦٥.

٣٣٠

وفرس أقدر : يضع حافر رجله موضع حافر يده.

قوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ)(١) أي أحكمه ، وهو أن يجعل المسامير طبق الحلق ، فإنّه لو عملها غليظة لانفصمت الحلق ، ولو عملها دقيقة لقلعت.

ومقدار الشيء : المقدّر له وبه ، وقتا كان أو مكانا أو غيرهما ، ومنه قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)(٢).

قوله : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ)(٣) هي التي يطبخ فيها ؛ سميت بذلك لأنّها مقدّرة على هيئة لها ، وما يطبخ فيها يقال له القدير اشتقاقا منه ، كقول امرىء القيس (٤) : [من الطويل]

فظلّ طهاة اللحم ما بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجّل

وفي البيت مسألة نحوية (٥). يقال : قدرت اللحم ، أي طبخته في القدر ، والقدار ، أي ينحر ويقدر ، أي يطبخ. وفي الحديث : «فإن غمّ عليكم فاقدروا له» (٦) أي قدّروا له عدد الشهر حتى تكمّلوه ثلاثين يوما ، ويدلّ له حديث آخر «كمّلوا العدّة» ، وقيل : قدّروا له منازل القمر فإنّ ذلكم يدلّ على أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون. وبهذا يستدلّ من رأى وجوب الصوم بقول أهل التقويم العالمين بسير القمر. ولقد أحسن أبو العباس بن سريج (٧) حيث قال : هذا خطاب لمن خصّه الله تعالى بهذا العلم فهوّ له. وقوله : (فأكملوا العدة) خطاب للعامّة التي لم تعن به.

يقال : قدرت الأمر كذا : أقدره : وأقدره : إذا دبّرته ونظرت فيه. وكان ابن سريج يقول : إنّ ذلك يختصّ بمن يعلم الحساب في خاصّة نفسه ولا يلزم غيره أن يصوم بقوله.

__________________

(١) وردت الآية في مطلع المادة.

(٢) ٨ / الرعد : ١٣.

(٣) ١٣ / سبأ : ٣٤.

(٤) من معلقته ، الديوان : ٣٨.

(٥) أنظر المسألة في شرح القصائد العشر : ٨١ ، والكتاب : ١ / ٨٣ ـ ٨٧ ، وهي حول خفض «قدير».

(٦) النهاية : ٤ / ٢٣ ، وهو حديث رؤبة الهلال.

(٧) وفي اللسان : «ابن شريح». وانظر النهاية. وشرح النووي على مسلم : ٧ / ١٨٩.

٣٣١

ق د س :

قوله تعالى : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(١) هو جبريل. والقدس : الطهارة ـ ويضمّ داله ويسكن ـ وذلك لأنه خلق من طهارة محضة ملك نورانيّ. وقيل : سمي بذلك من حيث إنه ينزل من الله تعالى بالقدس أي بما يطهّر به نفوس عباده من القرآن والحكمة والفيض الإلهيّ.

قوله : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)(٢) أي نصفك بالقدس وهو التّطهير والتّنزيه ممّا لا يليق بجلاله وصفاته ، عكس ما فعله جهلة بني آدم حسبما وصفوه به من اتّخاذ الولد والزوجة والحلول والاتحاد والجسم والتّحيّز تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا. وقيل : المعنى نصفك بالقدس حيث يقولون : سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح. وقيل : نطهّر لك الأشياء ارتساما لك (٣). والتقديس : التطهير الإلهيّ المذكور في قوله : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(٤) دون التطهير الذي هو إزالة النجاسة. وقيل : معناه : نطهر أنفسنا لك مما يخالفك.

قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)(٥) المطهرة. ومنه : بيت المقدس لأنه يتطهّر فيه من الذنوب. ومنه قيل للسّطل قدس لأنّه يتطهّر منه ويتوضأ.

قوله : (الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ)(٦) أي البليغ في الطهارة والتطهير. وجاء في التفسير : القدّوس : المبارك ، ويقال بفتح القاف (٧). وفي الحديث : «لا قدّست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويّها» (٨) أي لا طهّرت. وقال الشاعر : [من البسيط]

__________________

(١) ٨٧ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٢) ٣٠ / البقرة : ٢.

(٣) كذا قرأناها ، وفي الأصل : أن تساما.

(٤) ٣٣ / الأحزاب : ٣٣.

(٥) ٢١ / المائدة : ٥.

(٦) ٢٣ / الحشر : ٥٩.

(٧) فعّول من أبنية المبالغة ، وقد تفتح القاف وليس بالكثير ، من القدس. ويميل سيبويه إلى الفتح بينما اللحياني إلى الضم. والقاعدة أن كل اسم على «فعّول» فهو مفتوح الأول مثل : سفود وتنور ... إلا السّبوح والقدوس فإن الضم فيهما أكثر (اللسان ـ مادة قدس. النهاية : ٤ / ٢٣).

(٨) النهاية : ٤ / ٢٤.

٣٣٢

إنّ السّفاهة في خلائقكم

لا قدّس الله أرواح الملاعين

وحظيرة القدس : الجنة ، وقيل : الشريعة ، وكلاهما صحيح ؛ فإنّ الشريعة حظيرة منها يستفاد القدس ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ روح القدس نفث في روعي» (١) قيل : هو جبريل ، وقيل : هو الله تعالى ، يعني هو معك بقوته وبقدرته كقوله : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى)(٢)(إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا)(٣) أي بعلمه.

ق د م :

قوله تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)(٤) معناه لا تتقدّموا. وتحقيقه لا تسبقوه بالقول والفعل ، بل افعلوا ما يرسمه لكم وقفوا عند حدّه كما تفعله الملائكة الذين وصفهم ربّهم بكونهم عبادا مكرمين ، حيث أخبر عنهم بقوله تعالى : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(٥) وفي التفسير أنهم ذبحوا قبل ذبحه فنهوا عن ذلك. وقال ابن عرفة : أي لا تعجلوا بأمر قبل أن يأمر الله فيه أو ينهى عنه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : معناه : لا تتقدموا ، وهذا في معنى ما قدمته.

وقوله تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٦) أي يتقدمهم ؛ يقال : قدمته أتقدّمه قدما. وقدم يقدم أيضا : إذا تقدّم وعليه قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ)(٧) أي قصدنا وعمدنا. وأقدم يقدم مثله ، وأنشد لعنترة (٨) : [من الكامل]

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس : ويك عنتر أقدم

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) ٤٦ / طه : ٢٠.

(٣) ٥٨ / المجادلة : ٧.

(٤) ١ / الحجرات : ٤٩.

(٥) ٢٧ / الأنبياء : ٢١.

(٦) ٩٨ / هود : ١١.

(٧) ٢٣ / الفرقان : ٢٥.

(٨) في معلقته ، الديوان : ١٥٤.

٣٣٣

ومثله : قدّم ـ بالتشديد ـ يقدّم : إذا تقدّم ، وأنشد لبيد (١) : [من الرمل]

قدّموا إذ قال : قيس قدّموا

واحفظوا المجد بأطراف الأسل

وبمعناه أيضا استقدم يستقدم ، وعليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ)(٢) وأصل ذلك كلّه من القدم ، وهو قدم الرجل وجمعه أقدام. وبه اعتبر التقدم والتأخّر. والتقدّم على أربعة أضرب حسبما بينّاه فيما قبل. ويستعار القدم للسابقة ؛ ومنه قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ)(٣). ويقال : قديم وحديث وذلك إمّا باعتبار الزمانين ، وإمّا بالشّرف ، وإمّا لما لا يصحّ وجود غيره إلا بوجوده ، نحو : الواحد متقدّم على العدد بمعنى أنه لو تصوّر ارتفاعه لارتفع الأعداد. والقدم (٤) وجود فيما مضى ، والبقاء وجود فيما يستقبل ، كذا قاله بعضهم (٥) ، وينبغي أن يزيد فيما يستقبل وفي الحال. والمتكلمون يصفون الباري تعالى بالقديم ، وقد اشتهر ذلك في عباراتهم ، ولم يرد في شيء من القرآن والآثار الصحيحة وصفه تعالى بالقديم ، ولكنه قد ورد في بعض الأدعية ، وأحسبها مأثورة : «يا قديم الإحسان». وأكثر ما يستعمل القديم باعتبار الزمان كقوله : (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(٦).

قوله : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)(٧) أي قد نبّهتكم على ما بين أيديكم قبل أن يفاجئكم. يقال : قدّمت إلى فلان بكذا : أعلمته قبل الحاجة إلى فعله وقبل أن يدهمه الأمر.

قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٨) أي لا يريدون تقدّما ولا تأخّرا. قوله : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا)(٩) أي ما فعلوه قبل. قوله : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا)(١٠) أي من

__________________

(١) الديوان : ١٩٢. وفي اللسان : قيل .. وارفعوا ، وهي رواية مذكورة في الديوان. قاله لبيد في قدّم بمعنى تقدّم.

(٢) ٢٤ / الحجر : ١٥.

(٣) ٢ / يونس : ١٠.

(٤) في الأصل : والتقدم ، ولعلها كما أثبتنا.

(٥) مثل الراغب في المفردات : ٣٩٧.

(٦) ٣٩ / يس : ٣٦.

(٧) ٢٨ / ق : ٥٠.

(٨) ٣٤ / الأعراف : ٧.

(٩) ١٢ / يس : ٣٦.

(١٠) ٦١ / ص : ٣٨.

٣٣٤

سنّه وشرعه. قوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) قد تقدّم أنها السابقة ، وقال الأزهريّ : هي المنزلة الرفيعة. وقيل : معناه لهم سابقة في الخير ، أي سبق لهم السعادة في الذكر الأول. ويقال : تفسير القدم في العربية الشيء تقدّمه قدّامك ليكون عدّة لك حتى تقدم عليه. وقال القتيبيّ : عملا صالحا فيما قدّموه. وفي التفسير أنه شفاعة سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي الحديث : «حتى يضع الرحمن فيها قدمه» (١) يعني في النار. واضطرب الناس في تفسيره ، وأحسن ما قيل فيه ما قاله الحسن البصريّ : حتى يجعل الله فيها الذين قدّمهم من شرار خلقه فهم قدم الله للنار كما أنّ المسلمين قدما للجنة. وقال ثعلب : كلّ ما قدّمت من خير فهو قدم ، وتقدّمت لفلان فيها قدم : أي تقدّم في الخير ، ورجل قدم : إذا كان شجاعا ، ومنه حديث عليّ رضي الله عنه : «غير نكل في قدم ولا واهنا في عزم» (٢). وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أنّ ابن الزبير مشى القهقرى وأنّ ابن أبي العاص مشى القدميّة» ، وروي «اليقدميّة» (٣) يعني في الشّرف والفضل. وذلك عنى الشاعر بقوله : [من الطويل]

مشى ابن الزبير القهقرى وتقدّمت

أمية حتى أحرزوا القصبات

أي قصبات السّبق. وفي الحديث «إن إبراهيم ـ على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسّلام ـ اختتن بالقدوم» (٤) يقال : هو مقيل له ، ويقال : قرية بالشام. واستبعد رواية القدوم بمعنى الآلة المعروفة لعسر ذلك عرفا وعدم إمكانه عادة.

وقوله عليه الصلاة والسّلام : «أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي» (٥) أي على أثري. وركب فلان مقاديمه : إذا ركب على وجهه. وقادمة الرّحل ، وقادمة الجناح ، وقادمة الأطباء. ومقدّمة الجيش بفتح الدال وكسرها ـ والقدوم : كلّ ذلك معتبر فيه معنى التقدّم.

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٢٥ ، وفيه : «الجبّار».

(٢) النهاية : ٤ / ٢٦ ، وصوبنا اضطراب رسم الحديث منه.

(٣) النهاية : ٤ / ٢٧. في الأصل «التقدمية» والتصويب من النهاية واللسان والهروي.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق ، وليس في الأصل «الذي».

٣٣٥

وقدّام بمعنى أمام عكس خلف وتصغيرها قديدمة ، ودخول الهاء فيها شاذ ولذلك يصغرون وراء وريّئة ، حسبما بينّا ذلك في كتب النحو.

ق د و :

قوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)(١) الاقتداء : الاتباع ، ومنه الاقتداء بإمام الصلاة ، وذلك أن يتّبع أفعاله فلا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه ولا يزيد عليه ولا ينقص عنه.

والقدوة والقدوة اسم للاقتداء ، كالأسوة والإسوة. وفي الحديث : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» (٢) أي أنّهم على الحقّ. وقال طرفة بن العبد (٣) : [من الطويل]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدي

والهاء في «اقتده» قيل : هاء السكت ولذلك حذفها بعض القراء وصلا وهو القياس (٤) : وقيل : هي ضمير المصدر ، ولنا في هذا الحرف كلام متّسع أتقنّاه في «الدّرّ» و «العقد» فعليك بهما (٥).

__________________

(١) ٩٠ / الأنعام : ٦.

(٢) كنوز الحقائق ، ورقة : ٩.

(٣) الديوان : ٦١ ، البيت الأخير.

(٤) وقرىء بالياء «اقتدي» لابن محيصن (مختصر الشواذ : ٣٨).

(٥) من مواضع اجتلاب هاء السكت أن يكون الفعل المعلّ بحذف آخره سواء كان الحذف للجزم أو لأجل البناء. والهاء في ذلك كله جائزة لا واجبة ، إلا أن يكون الفعل قد بقي على حرف واحد كالأمر من وعي يعي فإنك تقول : «عه» (أوضح المسالك : ٣ / ٢٩٢).

٣٣٦

فصل القاف والذال

ق ذ ف :

قوله تعالى : (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ)(١) أي ألقيه واطرحيه. والقذف : الرمي قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ)(٢) قال ابن عرفة : أي يلقي بالحقّ في قلب من يشاء. وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ)(٣) أي نأتي به عليه فنغلبه به.

قوله : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٤) استعارة لرجمهم بالظنون الكاذبة والأوهام / الفاسدة. وأشار بذلك إلى ما كانوا يقولون في حقّه عليه الصلاة والسّلام : هو ساحر وشاعر ومجنون وغير ذلك من أكاذيبهم. والقذف في عرض الناس من ذلك لأنه رمي بالبهتان. وأصل القذف الرمي من بعد ، وباعتبار البعد قيل : مكان قذف وقذوف وقذيف كلّه بمعنى البعيد. واستعير للشتم والسبّ كما استعير لهما الرمي والرجم في قولهم : رماه بكذا ورجمه به. ومنه (لَأَرْجُمَنَّكَ)(٥) وقد تقدم. وفي الحديث : «أنّ ابن عمر كان لا يصلي في مسجد فيه قذاف» (٦) كذا روي وغلّطه الأصمعيّ وقال : بل هو القذف جمع قذفة وهي الشّرفات ، وكلّ ما أشرف من رؤوس الجبال فهو القذفات (٧).

__________________

(١) ٣٩ / طه : ٢٠.

(٢) ٤٨ / سبأ : ٣٤.

(٣) ١٨ / الأنبياء : ٢١.

(٤) ٥٣ / سبأ : ٣٤.

(٥) ٤٦ / مريم : ١٩.

(٦) النهاية : ٤ / ٣٠.

(٧) هي جمع ومفردها قذفة.

٣٣٧

فصل القاف والراء

ق ر أ :

قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)(١) القرآن الكريم هو المنزل من اللوح المحفوظ مع جبريل عليه‌السلام على قلب سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متلوّا وهو كلام الله كلام نفسانيّ قائم بذاته المقدّسة ، محفوظ في الصدور ، متلوّ بالألسنة مكتوب في المصاحف ، و «أل» فيه للعهد. ومنه قيل : هو علم بالغلبة ، واشتقاقه من قرأ ، أي جمع لأنّه مجموع من سور ، والسور من آيات ، والآيات من كلمات ، والكلمات من حروف. وقيل : لأنه جمع فيه القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والتنبيه وغير ذلك من أنواع الخطاب. وفيه لغتان : الهمز وعدمه ، والعامة على الهمز ، وقرأه ابن كثير غير مهموز ، فقيل : أصله الهمز فخفّف بالنّقل. وقيل : بل هو من قرن لأنه قد اقترنت فيه الكلمات والسور والآيات ، أو الوعد والوعيد والأمر والنهيّ حسبما تقدّم.

والقرآن مصدر أيضا ، ومنه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)(٢)(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)(٣) أي قراءاته وقال الفقهاء : لو حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث إلا بقراءة الجميع. وقال الفقهاء : لو قال قرآنا حنث بما يسمى قرآنا كأنهم جعلوا «أل» للاستغراق. وقال الراغب (٤) : القرآن في الأصل نحو كفران ورجحان ، وقد خصّ بالكتاب المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار له كالعلم ، كما أنّ التوارة لما أنزل على موسى ، والإنجيل لمّا أنزل على عيسى. وقال بعض العلماء : [ليست] تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين سائر كتب الله المنزّلة لكونه جامعا لثمرة كتبه ، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم كما أشار بقوله : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ)(٥)(تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٦).

__________________

(١) ١٨٥ / البقرة : ٢.

(٢) ١٧ / القيامة : ٧٥.

(٣) الآية بعدها.

(٤) المفردات : ٤٠٢.

(٥) ١١١ / يوسف : ١٢.

(٦) ٨٩ / النحل : ١٦.

٣٣٨

قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)(١) قيل : أراد صلاة الصبح وعبّر عنها به لاشتمالها عليه ، كما سميت تسبيحا وركوعا وسجودا لاشتمالها عليها.

قوله : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٢) القروء جمع قرء بضمّ القاف وفتحها. وقيل : القروء جمع للمفتوح والأقراء جمع للمضموم ، وهل هما بمعنى واحد؟ والمضموم نفس الدم أو الطهر والمفتوح نفس المصدر؟ وهل إطلاقه على الطهر والحيض بطريق الحقيقة فيكون مشتركا؟ أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ أقوال كثيرة منتشرة ذكرناها وذكرنا دلائلها والاعتراضات عليها والأجوبة عنها في كتابنا المسمّى ب «القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز» ولله الحمد. ولنذكر هنا نبذة من ذلك ؛ فقال أهل المدينة : هي الأطهار ، وبه قال الشافعيّ : واستدلوا على ذلك بقول الشاعر ، وهو الأعشى (٣) : [من الطويل]

مورّثة عزّا وفي الحيّ رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وقال الكوفيون ، وهو قول أبي حنفية : إنها الحيض ، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسّلام : «دعي الصلاة أيام أقرائك» (٤) أي حيضك ، ويحكى أن الشافعيّ تناظر هو وأبو عبيدة في ذلك ، وكان الشافعيّ يرى أنها الحيض وأبو عبيدة يعكسه ، فانفصلا وكلّ منهما مدّع عكس ما كان عليه لكثرة ما أورد صاحبه عليه من الأدلّة. وزاد أصحابنا الشافعية على ذلك فقالوا : لا بدّ أن يكون القرء طهرا محبوسا بدمين ؛ فالمبتدئة لا قرء لها إلا بعد أن ترى الدم. وقيل : الأصل في القرء الوقت فقيل في الحيض قرء وفي الطهر قرء لأنهما يرجعان لوقت معلوم. ويقال : هبّت الرياح لقرئها : أي لوقتها. قال مالك بن الحويرث الهذلي (٥) : [من الوافر]

__________________

(١) ٧٨ / الإسراء : ١٧.

(٢) ٢٢٨ / البقرة : ٢. والقروء : الحيض أو الأطهار.

(٣) الديوان : ٩١ ، وفيه : مورثة مالا ، وكذا في اللسان.

(٤) النهاية : ٤ / ٣٢.

(٥) واسمه في ديوان الهذليين مالك بن الحارث ، الديوان : ٣ / ٨٣.

٣٣٩

كرهت العقر عقربني شليل

إذا هبّت لقاريها الرّياح

وقال أنيس أخو أبي ذرّ الشاعر : «لقد وضعت قوله على أقراء الشّعر فلا يلتئم على لسان أحد» (١) أي على طرقه وأنواعه ، للواحد قرء.

ويقال : قرأت المرأة : رأت الدم ، وأقرأت : صارت ذات قرء ، وأقرأت الجارية : استبرأتها بقرء. قال الراغب (٢) : القرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر. ولما كان اسما جامعا للأمرين : الحيض والطهر المتعقّب له أطلق على كلّ منهما ، لأنّ كلّ اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كلّ واحد منهما إذا انفرد كالمائدة للخوان وللطعام. ثم قد يسمى كلّ واحد [منهما] بانفراده به. وليس القرء اسما للطّهر مجرّدا ولا للحيض مجرّدا بدلالة أن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها : ذات قرء. وكذا الحائض التي استمرّ بها الدّم والنّفساء لا يقال لها ذلك. قال : وقوله (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أي ثلاثة دخول من الطهر في الحيض. وقوله عليه الصلاة والسّلام : «اقعدي عن الصلاة أيام أقرائك» أي أيام حيضك ، فإنّما هو كقول القائل : افعل ذلك أيام ورود فلان ، ووروده إنما يكون في ساعة وإن كان ينسب إلى الأيام. وقول أهل اللغة : إنّ القرء من قرأ أي جمع قارىء إنّهم اعتبروا الجمع بين ز من الطّهر والحيض بحسب ما ذكرت لاجتماع الدم في الرّحم.

ويقال : تقرّأت كذا أي تفهّمت. وقارأت فلانا : أي دارسته.

ق ر ب :

قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٣) هذا من باب التمثيل لاقتداره وقهره ، وأنّ العبد في قبضته وسلطانه بحال من ملك حبل وريده ـ أي عرق حلقومة ـ ولا

__________________

(١) النهاية : ٤ / ٣٢.

(٢) المفردات : ٤٠٢ ، والإضافة منه.

(٣) ١٦ / ق : ٥٠.

٣٤٠